بقلم عبير انطون
في الاسبوع الثاني من شهر أيار/ مايو الجاري لبست عاصمة الشمال حلة التراث لتعود الى الماضي باصالته وتقاليده، وهي المؤهلة، شأن العديد من المدن والبلدات اللبنانية لإحياء حقبات تاريخية رسمت معالمها الدينية والاجتماعية والبيئية، ولتنفذ منه الى الحاضر فتنعشه والى المستقبل فتعد بافضل ما فيه. الا ان طرابلس تتميز عن كل ما عداها في امر انفردت به. فما هو؟ ومن وراء الحدث السنوي الذي بات محطة ينتظرها اهل المدينة، والبلد، وحتى من هم بعيدون جدا، على الضفة الأخرى من المتوسط؟
رئيسة <الجمعية الفرنسية للحفاظ على تراث طرابلس> الدكتورة جمانة شهال تدمري الباحثة والاستاذة الجامعية تجيب <الافكار> عن الحدث وما يتفرد به.
<تراثي- تراثك> بلسان رئيسة الجمعية اضحى موعداً لا يمكن ان يمر على طرابلس مرور الكرام، والهدف من احيائه سنويا الحفاظ على تراث طرابلس الفيحاء لإبقائه حياً في الأذهان والتأكيد على ضرورة حمايته وصيانة ما تبقى منه فلا يتعرض للهدم والسرقة، وليكون هذا التراث معبرا لتحفيز السياحة والانماء، فيتحوّل اداة وثروة نستفيد منها سياحياً، اقتصادياً، تنموياً وعاطفياً..
مؤتمرات عديدة وورش عمل ولقاءات عقدت منذ تأسيس <الجمعية الفرنسية للحفاظ على تراث طرابلس> في باريس سنة 2009 بجهود رئيستها جمانة شهال تدمري، وذلك في المركز الاقليمي لـ<إيل دو فرانس> مع مجموعة اصدقاء فرنسيين، وفرنسيين من اصل لبناني. يومئذٍ لم تكن الاهداف التي ترمي الجمعية الى تحقيقها بعيدة المدى جداً، اذ جل ما ارادته، هو التعريف عن تراث طرابلس في الخارج، لكن العمل والاهتمام اللذين لاقتهما الجمعية مع مؤسسات متخصصة بالتراث بينها مجلس الشيوخ الفرنسي، و<معهد العالم العربي> و<المجلس الاقليمي لمدينة باريس وضواحيها> و<الاونيسكو> جعلا الطموحات تكبر وتزيد لتثمر ما نراه اليوم. التفاعل المحلي والفرنسي نتج عنه مؤتمران تمحورا حول طرابلس وأكدا على ضرورة تعزيز معرفة ابناء المدينة بمفهوم التراث والحفاظ عليه، فيما ضمّ المؤتمر الثالث خبراء عالميين مختصين بالتراث واثمر توصيات ثلاث اولها ضرورة جرد المواقع التراثية للتعرف عليها وتوثيقها، والثانية شددت على حث اهل المجتمع الطرابلسي على الاهتمام بالتراث ووضعه على مسافة قريبة من اعينهم لينظروا اليه بطريقة مختلفة والاستفادة منه وتنظيم نشاطات تساهم في اعادة الاعتبار له، فيما قضت التوصية الثالثة بتجميل التراث ووضعه بتصرف ابناء المدينة.
فوضع قوائم الجرد المتعلقة بالآثار والمواقع التاريخية للمدينة والاحاطة بمشاريع اعادة ترميمها، ومن بينها طبعا جرد المباني التراثية، وجرد التراث غير المادي وتوثيقه بغاية الاهمية كما تؤكد تدمري <لاننا لا نستطيع الحفاظ على التراث الا اذا تعرفنا به، وذلك عبر طرق علمية>، كما تؤكد على حماية المنازل التراثية المهددة بالزوال. فطرابلس مدينة تمتاز بعبق التاريخ بقلعتها وأبراجها وقصورها ومعارضها ومساجدها وكنائسها وخاناتها ومدارسها وحماماتها وأسواقها ومينائها وكتاباتها ونقوشها، وكل ركن فيها مليء بالأصالة ويعتبر ثروة تاريخية وحضارية يجب ان يعاد اليها الاعتبار.
تشرح تدمري ان التظاهرة الثقافية بعنوان <تراثي - تراثك ٢>، المنبثقة عن الجمعية، ما هي الا الترجمة العملية لمشروع تربوي وبرنامج تعليمي يحمل العنوان نفسه، تنفذه الجمعية بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي في مدارس طرابلس الرسمية، منذ عدة سنوات، بهدف توعية طلاب المدينة، ومن خلفهم اهلهم ومحيطهم، حول اهمية المعالم الاثرية - التراثية في المدينة.
وتقول في هذا الصدد:
- استحصلنا على برنامج <تراثي - تراثك>، وترجمناه للعربية، وحصرناه بتراث طرابلس، وادخلناه كمادة تربوية على المناهج الرسمية في مدارس طرابلس الرسمية، بدعم معنوي كبير من وزارة التربية والتعليم العالي حيث كان لمدير عام الوزارة الاستاذ فادي يرق دور كبير في اعتماده لايمانه باهدافه. وقد ساعدنا في تعميمه على المناهج الغاء مادة التربية الوطنية. وبذلك، تدرس مادة <تراثي - تراثك> في هذه المدارس بمعدل ساعتين في الاسبوع، اي ما يوازي ست ساعات اجمالا في الصفوف الابتدائية والتكميلية والثانوية.
وفي هذا الصدد تؤكد الباحثة انه للمرة الاولى في لبنان تدخل مادة التراث في المناهج الرسمية وتتفرد بها مدينة طرابلس وقد حقق البرنامج نجاحا ملحوظا في صفوف الطلاب ومحيطهم المباشر، وهو يحمل في سنته التعليمية الثانية اهدافا متنوعة، اذ لا يقتصر على الآثار فقط، انما يتعداها ليشمل مفاهيم البيئة والمواطنة والتقاليد والتراث المادي وغير المادي. وقد تفاعل الطلاب مع هذا البرنامج بشكل كبير إذ عرّفهم الى جذورهم التي راحوا يتباهون بها ويسألون عنها، فشعروا انهم معنيون بمدينتهم وتراثها وقد أضحت جزءا من هويتهم ويسعون للمحافظة عليها.
كذلك فإن البرنامج تعدى الطلاب اللبنانيين الى النازحين من الطلاب السوريين الذين ما عادوا بفضل هذا البرنامج بعيدين عن البيئة التي يعيشون فيها ما يعزز انتماءهم لها والمحافظة عليها ايضا، كما انهم يقومون بالتعريف عن تراث بلدهم الذي انفصلوا عنه بفعل الحرب الدائرة، فيتشاركون والطلاب اللبنانيين بما يفتخرون به من هذا التراث ما شكل مدخلاً لحل النزاعات بينهم، وهو الهدف الذي يقع من ضمن اهداف جمعيتنا ايضاً.
ووجوه مضيئة..
لهذا العام قامت الجمعية من ضمن احتفالية <تراثي - تراثك> بتكريم الوجوه الثقافية التي تركت بصمتها في تاريخ طرابلس، فكانت تحية تكريم للشاعر والرسام الراحل رضوان شهال، الذي تسلم درعا تكريمية له نجله المهندس عمر الشهال، وكان اول من رسم تراث طرابلس. كذلك جرى تكريم عائلة بندلي والفنانة ريمي بندلي، وتكريم المايسترو والفنان خالد النجار من قبل رئيس المعهد العالي للكونسرفاتوار وليد مسلم، فضلا عن ندوة حول المعرض الاول للمنمنمات بعنوان <سيرة الطاهر بيبرس> باني <برج السباع> بالتعاون مع <جمعية شباب البلد>، وتم ايضا تكريم الفنان القدير الياس الرحباني مع عرض وثائقي لاعماله وووصلة موسيقية. وقد تضمنت الاحتفالية ايضا معرضاً لكبار الفنانين التشكيليين الذين قدموا <فن المنمنمات> مع ندوة حول هذا الفن الجميل. كذلك كان حضور الجيل الجديد بارزا من خلال معارض للتلامذة وعروضات لهم، وفنون، وأعمال حرفية مختلفة، فضلاً عن امسية <اوبرالية> وعرض للأزياء التراثية.
يذكر هنا انه، ولهذا الموسم الاحتفالي الثاني كان من المفترض ان تعقد طاولة مستديرة تحت عنوان <التراث الثقافي في المناهج التربوية: الواقع والتحديات والآفاق> حيث يناقش الخبراء على طاولة مستديرة تعقد في <قصر الاونيسكو> - بيروت البرنامج التربوي والتعريف عنه، ونتائجه وافاقه، وفرص تعميمه على كل لبنان بالتعاون مع اللجنة الوطنية لـ<اليونسكو> الا ان اسباباً لوجستية حالت دون ذلك.
التراث.. والدين..
ونسأل تدمري عما اذا كان الرئيس الفرنسي الجديد <ايمانويل ماكرون> سيكمل في مسيرة دعم الجمعية ونشر التراث الطرابلسي، فتؤكد على الامر <ذلك انه من قواعد الحكم في فرنسا الاستمرار بما ترسمه سياسة المؤسسات>، مضيفة ان التراث في فرنسا يقع في مقام رفيع جداً اذ يهتم به الفرنسيون الى اقصى الحدود وهو يأتي بمنزلة الدين لدينا.
وعن اهتمام حزب الكتائب بمشروعها، تبتسم الدكتورة تدمري بعد ان تطلب منا وضع السياسة جانبا لتؤكد انه في طليعة الاحزاب التي ترفع لواء التراث والحفاظ عليه، وتضيف: <انه نضال يستحق الكثير بالنسبة اليهم>. ونذكر هنا، ان صهر الدكتورة الشهال، رئيس حزب الكتائب سامي الجميل المتأهل من كريمتها كارين طبيبة الأسنان، زار طرابلس في عز احتفالاتها دعماً للجمعية وعملها وكانت له فيها كلمة عبّر فيها عن فرحته بوجوده في طرابلس، مؤكدا ان الدكتورة جمانة تكرس حياتها لطرابلس التي تحب، موجهاً اليها تحية كبيرة ومؤكداً <ان دولتنا للأسف لا تهتم بشكل كاف بالتراث الذي يجمع اللبنانيين، والذي هو مشترك بين كل اللبنانيين، ويجب ان يكون نوعاً من <الدبق> بيننا كي يجمعنا ونكون سوياً في هذه المناسبات الثقافية والتاريخية الجميلة... وأتمنى كسر كل الحواجز بيننا لنعيد بناء البلد الذي نحب، فهو بلدنا جميعا>.
وتؤكد تدمري لـ<الافكار> وجود الدولة اللبنانية كلها الى جانب الجمعية ممثلة بوزارة التربية شاكرة الاهتمام المعنوي الدائم لمديرها العام الدكتور فادي يرق، فضلا عن وزارتي السياحة والثقافة في مشروع متكامل.
مليونير.. مؤلف وعازف!
ما بين <برج السباع> أو <برج برسباي> الذي بناه سلاطين المماليك للدفاع عن المدينة، أشهر أبراج طرابلس الدفاعيّة وأكبرها، ودرج قهوة التل العليا الذي أنشأه العثمانيون عام 1870 والذي يعد من أهمّ المقاهي الطرابلسية التراثية، توزعت فعاليات الحدث الثقافي الراقي، وفي الاخيرة كانت مفاجأة فنية من العيار الثقيل تنتظر ابناء المدينة وزوارها، فما كانت؟
انه الموسيقار العالمي عازف البيانو عمر حرفوش ابن الفيحاء الذي لا يتأخر عن مدينته في اي حدث ثقافي وفني يدعى اليه. بالامس القريب احيا في <مؤسسة الصفدي> احتفالاً رائعاً، ولما تلقى الدعوة من السيدة تدمري لم يتردد لحظة لاحياء الحفلة على درج القهوة دون اي مقابل. فمن هو حرفوش المعروف عالميا اكثر مما هو معروف لبنانيا؟
انه الفنان صاحب الثروة المادية الكبيرة المولود في <شارع المطران> في طرابلس، وهو عازف البيانو الذي عشق الآلة فتولت بالمقابل ان تفتح له دروب المجد والشهرة. درس في مدرسة <الفرير> في المدينة وتلقى علومه الموسيقية عند الأستاذ عبد الحق المصري، تابع شغفه بالعزف وقد كان لرضوان الشهال الذي كرمته ليالي <تراثي - تراثك> اثر في حياته، وهو نال جائزته التي أعلنت بعد وفاته بحيث كانت جائزة لبنانية - عربية تحمل اسمه، وهي عبارة عن منحة سنوية للعلوم الفنية من موسيقى أو رسم أو أدب.
شارك حينذاك عمر في هذه المسابقة وكانت اللجنة التحكيمية مؤلفة من أساتذة روس مستعربين، ومن بعدها شارك في المسابقة الفنية التي نظّمتها سفارة الاتحاد السوفياتي في مقرّ الرابطة الثقافية أوائل ثمانينات القرن الماضي، وابلغه وفد من السفارة السوفياتية بأنه حل اولاً بين المتبارين ما اهله للحصول على منحة للدراسة في الاتحاد السوفياتي والتخصص بالآلة التي احبها، فغادر عبر مطار دمشق لان مطار بيروت كان مغلقاً حينذاك بسبب الاحداث.
واذا كانت مصائب قوم عند قوم فوائد، فإن تفكك الاتحاد السوفياتي حينذاك الى عدة جمهوريات، جعل حرفوش الذي لاقاه اخوه الى اوكرانيا يستثمر في اعمال ناجحة في مجال الاعلام والاعلان والتجارة ما فتح امامه ابواب النعيم، من دون ان ينسى الموسيقى عشقه الاول فاصر على تقديم الافضل فيها عزفا وتأليفا وعرف نجاحا لافتا.
يلقب حرفوش <بصديق الرؤساء> في لبنان ومن حول العالم، وقد جمع الفن الى السياسة والمال. له كتاب بعنوان <اعترافات مليونير> وهو متزوّج اليوم من عارضة الأزياء الروسية <يوليا لوبوفا> التي تعتبر حالياً من أهم 10 عارضات في العالم، ولديه منها ابنة وحيدة. اللافت ان حرفوش لا يزال يرفض اي جنسية غير اللبنانية تعلقاً منه بأرضه وجذوره، في حين ينتظر آخرون في طوابير على ابواب السفارات طمعا بها..